Nostalgic Story Teller has moved from blogger to wordpress!

You should be automatically redirected in 3 seconds. If not, visit
http://hilalchouman.wordpress.com
and update your bookmarks.

Nostalgic Story Teller 2

Selected texts from the old "nostalgic story teller" blog

" كيف تخبرني أنـَّك وحيد وأنَّ الشمس لا تشرق لك؟ دعني أقدْكَ يداً بيد داخل شوارع لندن. سأريكَ شيئاً لأجعلك تغيِّر رأيك."
من أغنية لـ"رالف ماك تـِلْ"
***
طابق ثانٍ وجناحان

في الطابق الثاني من الباص، تجلس. لحظةَ تعلو، تمتلك عالماً متخلياً وتتضخم لديك المقاييس. تخاف استدارات الباص. تتأكد لثوانٍ أنه سيرتطم بالسيارة القادمة قبل أن يخيب توقعك. وأنتَ في الأعلى، لا تثق بالسائق. لا زلْتَ لا تعرف الكثيرهنا. لا زلْتَ تخطئ وتفتح باب السائق الأمامي الأيمن في سيارة رفيقك. لا زلْتَ تنظر للجهة الخاطئة من الشارع. لا تعرف كيف يبدأ نهارك وكيف ينتهي. لا تعرف حتّى إن حلّ الصيف أو انتهى الشتاء. فالشمس لا زالت حاضرة مع الريح الباردة، والحمام الأوروبي الوقِح يتـَناتـَش بقايا شطيرة في وسط الشارع غير آبه لرذاذٍ صيفيّ، أو لباصٍ قادم إلاّ في اللحظة الأخيرة. الشطيرة تستحق فعلَ المخاطرة إن وُجِدَ الجناحان.
***
عرب في المكان

هنا مساحة لاختلاط أجساد غريبة لا يجمعها إلاّ المكان. السعودي يتحدّث عن فعل التلاعب الموسمي بالأسهم السعودية من أشخاص معروفين بالإسم. الأردني يخبِرُ عن أمه المريضة بالمرض القاتل وعن فقدانه للكثير من شعر مقدمة رأسه وابيضاض جانبيه لحظةَ زارها. أما الفلسطيني، فيستفيض لتأكيد أنّ العلاقات الداخلية الفلسطينية أعقد من التعميم المنصِف، ولا يتوانى عن توزيع الهامبرغر المجاني، دعوات العشاء، دعوات لصالونات الحلاقة، والواقيات الذكرية المجانية لإلهاء طلاب الجامعة عن المحاضرة الإسرائيلية مساء هذا اليوم.
***
اندماج

في مطاعم البيتزا السريعة، ملصقات لتجمعات إسلامية، لحفلات الأناشيد القادمة لعماد رامي، ولحلقات نقاش عن انتشار الأسلحة بين أيدي المراهقين. قرب الملصَقات تمر المحجبات الباكستانيات وهنّ يلبسْنَ "النص كم" ببساطة ويرافقْنَ المنقّبات حتى الجامعات. في الجامعات، المسلمون مجتمعان: سني وشيعي. ينأيان بأنفسهما عن أيّ موقف داعمٍ واضح لأيّ قضية يمكن أن يوسمهم بالإرهاب. يحاولان الاندماج بالمجتمع الانكليزي. ينجحان ببطءٍ مجتمعـَيْن، وينجحان أسرع لمّا ينفصلا.
***
صينيون في مكان بديل

الصينيون في انكلترة. انكلترة كبديل عن مكان لم يصلوه: أميركا. يجهدون في تعلم الانكليزية. ينجحون ويفشلون. أحدهم لا زال يـُشعـِر زميله الانكليزي بأنه يختنق كلما تحدَّث اللغة. أما الانكليزي فلا يزال يخطئ بدوره في توقع عمر مخاطبِه الصيني. تباعاً، تستعيد الذاكرة نظريّة مفادها أنّ الصينيين يتأخـّرون ليهرمون.
***
قلقيلية

المستشفى. يدخل الطبيب. لبانته تسبقه وتخفف من وَطْء بذلته الرسمية على المرضى. يضحك وهو يعلك اللبانة. يسأل عن مكان الولادة. "بيروت". يبتسم. يقول أنه ذهب إلى إسرائيل وعاش في قلقيلية. "هل تعرف قلقيلية؟"، يسأل. "مكان رائع"، لا ينتظر الإجابة. يود أيضاً الذهاب إلى لبنان وسوريا لولا "الأختام الإسرائيلية على جوازه". يضيف أن تلك الأختام لم تمنعه من دخول الأردن. ينظر إلى ملف المريض، يضحك ضحكته الرتيبة ويعيد علك لبانته بإصرار ويلتفت قبل أن يرحل قائلاً: "من يدري؟ قد تراني في لبنان قريباً".
***
بريد إلكتروني

تفتح البريد الالكتروني وتجدُ أنك اخترْتَ لتربح جوائز وهمية من دون أن تعرف. لا يزال بنك أفريقيا الجنوبية يعلمكَ بالمبلغ المليوني الذي ورثته على حين غرّة، أو بالشخص المجهول الذي يحتاج لمساعدة طبيّة عاجلة ويسأل انسانيتكَ أن تمنحه إياها. لا تزال حتّى تتلقى إعلان القوات اللبنانية الالكتروني الذي يزدان بصورة لراقصة تركية يدعونَك فيه لليلة "شرقية" راقصة في تولوز بجنوب فرنسا.
***
في حقيبة واحدة

تـُترَك أنفاق المشاة المنخفضة عن الأرض لمن يطأها بلا أدنى اهتمام. تهمَل لترقدَ فيها روائح غريبة من بول الكلاب وعرق عمل النهار، فتعرِّف هويتها. يجلس الشحاذ في باحة تقاطع الأنفاق على المقعد الحجري. لا يتكلم. لا يستجدي. يقرأ فقط في كتاب بلـِّلَتْ صفحاته ثم تركت وحدها لتجف فتعاظم حجمها. وصل الآن إلى الصفحات الأخيرة. يرفع نظره لحظةَ يترك أحدهم قطعة معدنية واحدة أو اثنتين. يشكره. يتابع القراءة للحظات ثم ينبِّش عن شيء ما في حقيبته البنـّيّة الرثـّة. هو يحمل بيته في حقيبة واحدة.
***
سُكْرٌ يتقيّد بالإشارات الضوئية

ليل نهاية الأسبوع. تكاد السيارة أن تدهس قاطع الطريق غير الآبه للإشارات الضوئية. يتراجع في اللحظة المناسبة، يزفر تنهيدة النجاة. تقترب إحدى الفتيات التي خرجت للتو من سهرة نهاية أسبوعها.
"أنظر إلى الإشارات الضوئية. أنظر! تأتون من آخر العالم ولاتفقهون معنى الإشارات. لم تنظر إليّ هكذا؟ هل تظنّ أنني سكرانة. مخطئ. مخطئ ومعتوه أيضاً."
تعود إلى رفيقاتها. يبتعدْنَ وهي تكمل بترنّح: "الغبي يظنني مخمورة."
***
رحيل

لحظة الرحيل يعاد بناء ما تراكـَم، ويتم تجميع ما تبعثر. لا يُشعَر بالمكان إلاّ عندما يـُترَك. تتضخم المقاييس للحظة كما في الطابق الثاني للباص، وتقفز للعين تفاصيل صغيرة ليسَتْ جديدة لكنّها لا تفقد طزاجتها وكأنّها خبِّئَت للحظات الأخيرة. يهطل الرذاذ دائماً بلا إعلان مسبق. في مدن بريطانيا الشتويـّةِ الصّفة أيام الصيف، "يحمل المطر قليلاً من الشفقة والمواساة لبطل منسيّ آخر وعالم لا يكترث". تختم الأغنية.

يجلس بملابسه الداخلية وحيداً في زاوية من غرفته المظلمة. ضوى برق كهربائي منذ لحظات. كان عائداً لينهي نهاره كما دائماً في عزلته الاختيارية. لمس بأصابعه المتعبة أزرار الكهرباء فلمع الطرف الأيمن من الغرفة ثم حلّ الظلام. وجدها فرصة ليزيد من اعتكافه الاجتماعي. خلع ملابسه، أدار التدفئة الحرارية، ثم جلس هناك. صمت لثوانٍ، لدقائق. تنهد. قام ونظر إلى الرفوف الخشبية. ألبوم الصور مستقر إلى اليسار. كادت يده تمتد لترفعه من مكانه لكنها تضامنت مع خياره المازوشي. تذكر أيضاً أن يطفئ المحمول. ثم عاد إلى كرسيه المدفّأ.
نظر إلى السقف. اكتشف أنه يحب أسقف البيوت خاصةً في الظلام. ترسم عيناه هناك أشياءً حدثت أو لم.. تحدث. أشياء صغيرة تحرك "الستاتيكو" الآني. تذكّر أنها ليست المرة الأولى التي ينظر فيها إلى الأسقف. كثيراً ما كان يستلقي في سريره لينام فينتهي به الأمر ناظراً إلى فوق ومتأملاً. تشخص عيناه للحظات ثم يثقل جفناه ويروح في نوم عميق.
يستذكر جدته. تقسِّم مراحل حياتها بحسب الأحداث السياسية الأشهر. لا تعلم متى ولدت. تعلم أنها شهدت في صغرها المجاعة وتعرفت إلى الجراد. بعدها سمعت في مراهقتها أن رجالاً حبسوا في قلعة ما وأن الفوضى عمّت فجأة ثم استتب الوضع وعاد الناس ليترحموا على "الفرنساويي" ثم دبت ثورة أخرى ثم أخمدت وفي أثناء ذلك ظهر ذلك الكاريزماتي التي أحبته. ثم كادت تتزوج من آخر لكن تنحي الكاريزماتي وامتداد "الجـَفـْلة" إلى شوارع بيروت لم يكتفِ فقط بإرجاء زواجها لأيام بل قدم لها زوجاً بجبهةٍ جريحة من فعل ضرب الرأس بالحائط. قدم لها بداية بائسة لزواج. كرهت لحظتها ذلك الكاريزماتي الآتي / الباقي / المتنحي / العائد. ثم عادت فأحبته يوم رحل. وكيف لا تحب الراحلين لحظة رحيلهم؟
التفتت إلى زواجها فجربت أن تحمل ولم تنجح. ولما حملت أسقطت الجنين مرة ومرتين وثلاث. وذات مرة، ذهبت إلى الشاطئ القريب من بيتها الجنوبي وجعلت تغسل ملاءات السرير البيضاء فاستحال زبد البحر أحمر. فجلست تبكي ولم تحاول مرة أخرى. إختارت أن تعتني بأولاد زوجها وتفننت في زرع قصب السكر في حديقتها الصغيرة. ثم ظهر شخص أسمر آخر يشد على الحروف المنطوقة ويتهدّج بإيمان كلما خطب. قيل بعدها أنه ذهب إلى قيـّمي اللا مكان بـ"شجاعة". "شجاعة" امتدت معه إلى خطاب كلـَّفها الطبخة المحروقة الأولى ونظرة العتب الأولى من زوجها أبي اولاده.
وماذا بعد؟ احترقت الطبخة وخرجت القضية المطرودة من بلد لبلد لتستقر هنا ثم اشتعل حريق آخر قريباً منها. وبات غصن الزيتون مركوناً قرب الكلاشينكوف وظل ناس القضية يأكلون الصعتر الطيب ولا شيء غير الصعتر. ثم قتل الأسمر المؤمن ودخل الجنود الآتين من لا مكانهم الأراضي المحيطة بها. كانوا كثر. بعضهم جهد في تكلم العربية فخرجت من فاهه هجينة لئيمة. استعارت جدته لئمهم ولم تمتنع عن أداء دور مربية أولاد الزوج. هكذا كانت تردح لجنود اللا مكان لحظة يطأون سقف دارها أو يسرقون قصب السكر من حديقتها.
وكان أن اختفى ابن زوجها ليظهر في صفوف حركة شارعية اسلامية تجاهد ضد نصارى ما بعد المتحف. ثم أدار ظهره للنصارى وانهمك في قتاله ضد الشيعة وقـُزِّمـَت هوية الحركة من الإسلامية للسنية. لحظتها، لم تكن جدته لتكترث بالمشاريع الإعمارية المعلقة الطائرة بين دول القرار والتي تريد بناء البلد قبل أن ينتهي فعل الخراب فيه. نزلت إلى بيروت لتعيد ابن زوجها وهو كذلك فعل لكنه كان قليل الهمة بعكسها. وجدت ابنـ"ـها" قد بدّل الحركة ولم يبدّل السلاح، ولم تفلح في إعادته. استمرت لسنوات قبل أن يتوقف كل شيء فجأة كأن شيئاً لم يكن.
عاد إليها ابن زوجها سليماً لكن محبطاً وعاطلاً عن العمل. وبدأت سنوات اللا زمان واللا مكان. مهّد لها أحدهم وقد أصبح بعدها شهيداً على الشاشات الجديدة الإخبارية التي ستدمنها في آخر أيامها مقعدة بسرطان العظم. اختلطت عليها الأمور بادئ ذي بدء مع بداية سنوات الرماد: ابن زوجها مصاب يقضي أيامه في المنزل كئيباً، وأحد "الشهداء" المستقبليين يترك قيـِّمي اللا مكان ويستدير ليبدأ أم معاركه في الجهة الأخرى، أما غصن الزيتون فقد عاد من منفاه كئيباً كما لم يكن من قبل مصاباً بطفيليات نادرة. وعادت القضية المطرودة لتنام في أحضان قيـِّمي اللا مكان، فتضخمت جيوب البعض كما خلال سنوات الخراب. أما الشعب فبقي مطروداً يعيش على الصعتر.
ثم ماذا؟ أضاعت جدته هنا "التـَوْرَخـَة". تقول أن سكوناً حلَّ قطعه جنازات واغتيالات بدت لها عادية قياساً بما مرّت به. لحظة تملك منها ذلك المرض وتم نقلها إلى المستشفى، طلبت من سائقي عربة الإسعاف أن يتوقفوا في البقعة الجديدة المعاد إعمارها ويخرجوها قليلاً لتنظر فقط. عبثاً كانت تفتش عن شوارع شعبية كانت تتسوق فيها قبل اندلاع الحرب. قالت أن المكان بات غريباً عليها ثم أضافت أن لا مشكلة فهي ذاهبة وربما يتواءم من هو أصغر منها معه. عادت إلى سيارة الإسعاف واتجهت إلى غرفة ستقضي فيها بقية عمرها. هناك، ستعيد عقد الصداقة مع التلفاز الذي هجرته منذ سنوات الخراب.
في الشاشة سيسقط البرجان. في الشاشة ستتعرف إلى الملتحين. في الشاشة، ستتعرف على الغبي صاحب الحركات "الوجهيّة" الغريبة. هناك، سيُحاصر صاحب زيتون الشاشة المقلوع عنوةً.. ثم يموت أيضاً.. في الشاشة. ثم تنام لتصحو على هزّة. تسألهم عمّا حدث فيقال أنه انفجار، فلا تكترث قبل أن تشاهد الشاشة، ثم تصدق. ترى الأرض المحروقة وتبدأ أيامها الأخيرة لتتحول الشاشة بعدها واحةً لأناس كرهتهم في السابق فعادوا وطلوا أمامها وكأنهم لا يريدون تركها تهنأ بأيامها الأخيرة.
تختلط عليها الأمور، البعض يتحدث عن "أولاً" و"آخراً"، تنظر إلى السقف تستذكر صديق أمسياتها الحربيـّة رياض شرارة وتبتسم. ثم تغلق عينيها، وتبتسم. ثم تسمع أزيز الطائرات، فــ.. تبتسم. ثم تـُبنى كاريزما شخص آخر، ولا تملك إلا أن.. تبتسم.
وهو أيضاً. ينظر الآن إلى السقف الأسود (لعله السقف ذاته؟)، ويتهدل جفناه. ينتقل بملابسه الداخلية - التي قد تبدو غريبة لجدته - إلى سريره. يستلقي كعادته هناك ثم يعيد النظر فيراها تبتسم فوق وتنتهك بكل محبة عزلته.
ثم يغلق عينيه، وينتظر أن يأتيه يوم ينظر فيه إلى الشاشة و.. يبتسم.

Saturday, October 18, 2008

آرتيزانا

صاحب السحنة السمراء يخرج سريعاً من بيته متجهاً إلى عمله. ينسى إطفاء التلفاز. جيفارا البديري تتلو رسالة الصباح. يصعد الباص. ينظر إليه السائق نظرةً غريبة ثم يتأمل بطاقته لدقيقة قبل أن يسمح له بالصعود. ما هَمّ. البارحة، وجدوا قنبلة تحت أحد مقاعد محطة الباصات وسحنته باتت دليل شبهة.

صاحب السحنة السمراء يشعر بكآبة مزمنة، ينتظر نهار عمله أن ينتهي كي يعود إلى بيته سالماً. يمر في أحد الشوارع فيتذكر "مار الياس" وذلك المحل "الآرتيزانا" الذي كان يقف أمام واجهته ويقول:
"من هنا سأشتري لها أول هدية معلنة بعد طوفان الهدايا المجهولة التي وصلت عتبة بيتها. بس لو تقبل."

هي لم تقبل ومحل "الآرتيزانا" لم يغلق أبوابه كما في نهاية فيلم رومانسي رتيب. ازدانت واجهته ببضائع جديدة واحتلّت عشبة الماريجوانا تطريزات معظم الحقائب المعروضة.

ما هذه الرائحة؟ تبدو كرائحة "الآرتيزانا" التي صمدت تحت حصار لم ينته. أين هي الآن ،يسأل. يهرع لكتابة رسالة الكترونية لصديقتها. تقول له أنها ما زالت هناك مع صاحبها القذر. يعاملها باستخفاف كما دائماً وهي ما زالت تحبه في علاقة أشبه ما يكون بالآرتيزانا الرتيبة.

يمسح وجهه براحتي كفيه وينظر إلى ما ظهر من انعكاس وجهه على شاشة الكمبيوتر السوداء. لـَمْ ينتبه لسحنته قبل ذلك. كان يعيش بين آخرين يشبهونه. هنا بدا نافراً،غريباً. هنا بات وحيداً.

يمر بساحة فيتذكر وسط بيروت. هنا مسرح وتلك سينما. ينتبه أن المسرح والسينما لم يكونا يوماً جزءاً من هوية وسط بيروت الجديدة. لا مسرح ولا سينما هناك. فقط شظايا تظاهرات ثقافية من حينٍ لآخر في خطوةٍ أشبه برشوى من البنائين لمرتادي الساحة. السياحة الجديدة تعني جنس وأكل. الجديد ليس بثقافة خشبية. براغماتيةٌ هذه السياحة لدرجة مستفزة. تغيـِّر لونها الثقافي بتغير الأحداث.

يكمل طريقه ويمر قرب صالون تجميل. يدخل . يحتاج لإعادة تأهيل تخفي شبهة سحنته السمراء.

ينظر إلى المرآة بعد محاولة إعادة التأهيل. لا يعرف نفسه. ينقد العامل مبلغاً ويخرج. يجتاز الشارع إلى محطة الباص. يفاجأ بسمرٍ آخرين فعلوا مثله وأعادوا تأهيل انفسهم. ينظر إلى أحدهم ويتذكر أنه رأى هذا المظهر قبل دقائق خمس في مرآة ما.

يصل الباص. يصعد الباص. يعيد السائق التفرس في ملامحه. يدخل ويجلس قرب النافذة.
لـِمَ قالت لا؟ يعيد نبش أوراق زمن مر. يعيد إيهام نفسه أن الفرصة ما زالت سانحة.

يتوقف الباص وتصعد عجوز تأبى أن تتكلم إلا بصوت مرتفع.
لـِمَ جنّ عند معرفته بقصفٍ طال محيط بيتها الجديد؟ لـِمَ ما زال يفكر فيها أساساً؟ ما هذا الهراء الفكري الذي يلفّه هذه الأيام؟

يتوقف الباص ويصعد مراهق يعلن مثليةً صريحةً تؤكدها ملابسه وحركاته.
لـِمَ يفتقد الصراحة مع أسراره الدفينة. لـِمَ يصر على عدم إشراكها مع أحد؟ أَلـِيَحتفظ بأملٍ هو أبعد ما يكون عن المنال؟

يتوقف الباص ويصعد طفل وامرأة. الطفل يبتسم بسبب وبلا أي سبب في وجهه.
لـِمَ ينظر إليه الطفل ويبتسم. من أين يأتي بتلك الإبتسامة؟

ما همّ. عليه ان يعالج تداعيات اكتئابٍ بدأ. العلاج كما تربى عليه يتمثل بتأجيل الموضوع كما دائماً وفي حالات متطرفة يبدو اللجوء إلى البتر الاحمال الأنجع. لِيـَكن صريحاً مع ذاته: لـِمَ يجلد نفسه إذا كانت الخاتمة المفترضة تقول أنه سيعود إلى هناك ويحظى بـ "عذراء" انتقتها له أمه؟

يصل بيته. ينظر إلى المرآة. يدخل الحمام ويزيل مظهره الجديد كـَمـَنْ ينتقم من لحظة ضعف. يستلقي على سريره وحيداً كما دائماً .

في التلفاز، جيفارا البديري كما تركها عند خروجه: تقف ببذتها العسكرية وتعلن بصوتها المخنوق آخر الأخبار من أرض الحلم.
جميلةٌ هي جيفارا البديري وغريبٌ هو صوتها. تماماً كغرابة اسم جيفارا لامرأة.

Friday, October 17, 2008

Toulouse

يمسح نظراته، ويلقيها في الوعاء البلاستيكي. يحلّق عصفور ثمّ يهبط على الوردة الصفراء. يعطيها احمراراً. تذوب الوردة دماً على تراب بني. البني يستحيل أحمر ويجف. يومان، ويستعيد لونه. يمسح نظراته. يلقيها هناك. على البني. على الأحمر. على الدم الذي جفّ. يمسح نظراته فيفقد الإغلاق. الحزن. الفرح. الاستهجان. الغضب. الضياع. النوم. التعب. الشتيمة. البـَلـَه. يمسح كل ذلك. يمد يده مستقبلاً العصفور. يمسك بمخلبيه الإصبعين.
ومن المخلبين، يقطر دمٌ طازجٌ برائحةٍ فريدة.

.. وفي "اللَّغَن" الموجود في "سْطَيْحة" الدار ماءٌ وصابونٌ وثنايا ثياب تبتلع السائل شيئاً فشيئاً. و"اللَّغن" بين ساقي عجوز فيما يداها ترفعان الثياب بثِقلها المتنامي مع الابتلال. تلحظ فجأة الماءَ المتلوّنة أحمر. تنهض وتتجه إلى شباك غرفته. تنظر فتراه نائماً بفانيلته القطنية البيضاء في سريره المجاور للحائط. على وجهه تعب البارحة واضحٌ. تدخل ثم تجلس إلى جانبه. تنتظر منه أيّ حركة تمكّنها من تفحّص أجزاء مخفية مجسده. تتأكد أن لا أحمر هناك فيهدأ نبضها. وبعد أن تتأكد، تحاِذر أن لا توقظه. تحضِّرالقهوة الثقيلة في المطبخ وتعود لتجلس قربه. تشرب فنجانها المملوء ببطء محسوب، وتغطي الباقي في الركوة لفنجانه الفارغ الموضوع جانباً. تنتظره أن يستيقظ بنفسه ليخبرها عن دم الصديق أو.. العدو.

الصباح. القهوة. المشط. الماء. المشط. الماء. المعجون. الرغوة. الماء. العنق. العطر. القميص. الزر. الشارع. السيارة. الإشارة. العمود. الباص. العجوز. البونبون. المكتب. النافذة. الغيم. الهواء. الغمام. الحمام. المكان. الساحة. الشارع. ساعة البرج. الزمان. الأمل. الأحلام. القدر. اللاّ قرار. اللاّ فعل. اللاّ أنا. وجبة الغذاء. الصحن. شكراً. الصمت. الشوكة. شيء ما في الصحن. الشوكة. تقليب الشيء. العودة. المفتاح. الاستلقاء. القيام. أنتِ على حق. تشويش. الأغنية. إيقاف الأغنية. العودة. العناق من الوراء. الرأس على الساعد. أنا مشوّش. لا بأس. العناق. الجنس الحزين. الجنس الفـَرِح. الجنس المتّقد. الجنس الروتيني. الجنس الشاب. الوضعيّات. الجنس الهـَرِم. التقشّف في الوضعيّات. الاستمناء. السيجارة. الدخان. أعطني السيجارة. خذ الدخان. لا ترمي السيجارة. الدخان طائراً. الساق. زاوية السرير. الجلوس. الساق. خـَلـَص. المطبخ. الركوة. الماء. الغليان. القهوة. التلفاز. المجزرة. التلفاز. القبلة. التلفاز. الضحكة. التلفاز. الغباء. الفنجان. اللسان. اللسعة. العناق. الحميمية. الصمت. الابتسامة. الضحكة. قـِفْ. الضحكة. خـَلـَص. الضَّحِك الجماعي. وداع الشمس. الستارة. المخدّة. المشاية. الدوش. الشتاء. الدوش. الصيف. الدوش. أغمض عينيك. الدوش. الأغنية. الدوش. أوسَط الظهر. المنشفة. الكرسي. النافذة. الأولاد. الطابة. إرمِ الطابة. الساعد على الكتف. الرأس قريباً. أغمض عينيك. أغمضي عينيكِ. الستارة. الأمل. الأحلام. القدر. اللاّ قرار. اللاّ فعل. اللاّ أنا. اللاّ أنتِ.

1
مَنـْطـَقَ العلاقة،
أنهى حباً،
شرب نبيذاً،
ولم ينعس.

2
الحياد غلب الحب.
الحياد غلب الـ"نا" لصالح الـ"أنا".

3
حصلت الفتاة السمراء على جديلتها الأولى لمّا قرأتْه.
حصلت على جديلتها الثانية لمّا أحبّتْه.
وظهرت لها جديلة ثالثة لما تركَتْه.

4
هو دمدمَ بشتيمة.
وهي التفتَتْ إليه مستدركةً:
"وأنا كمان حبيبي".

5
في المقهى، دَعَكَ أكياس السكر أكثر من مرة. كان يرتجل خِطاباً عاطفياً.

6
إنها الثانية والنصف صباحاً. القهوة منزوعة الكافيين توهمه باستمرار الأرق.
الأرق يثقل جفنيْه من غير أن يغمضهما.
ميلان كونديرا يقص حكاية جنينٍ مشؤوم، وفيركور يروي صمت البحار.
أما هي، فعلى الأرجح نائمة؟

7
المتشائل يتحاور مع الكائنات الخضراء،
وهي تدعك خريطة القلادة الفضية بسائل منظِّف بارد.

8
تلعثم لمّا رأى صورة غيفارا العظمى خلفها على الحائط.
أراد أن يقول لها :أحبّكِ.
عوضاً عن ذلك، شتم غيفارا.
ولم يضحكا.

ترتعش الوُرَيْقات الخضراء. أغني فأُبكي، أعزف فأُوهـِم. غنِّ يا قيثارتي وارفعي من الوَلـَه. تنتشي الجميلات حولي. هنَّ مأخوذات بسحر صوتي الفتيّ. تتملّك منهنّ الموسيقى فيبدَأنَ يتنازعـْنَني حتى يقطـِّعْنـَني قطعاً. كل واحدة تحظى بعضوٍ أو قطعة جسد. إلاّ رأسي. يتدحرج هارباً على العشب الجديد إلى الجدول المجاور. يتصل الجدول بآخر فيصير نهراً، والرأس يتابع رحلته في ماء النهر حتى يصل المالح، ومن المالح مجدداً إلى العذب، دورةٌ كاملة ولا زال وجهي طافياً. فمي يصفِّر، وموسيقايَ لم تتوقف.
ينتهي مقطع فأبدأ بآخر. ها أنا أعيد خلق عشقي الصغير بشغفٍ متخيـَّل يُسقِط التفاصيل المرذولة من الحسبان. الحلم يبقى غضّاً جداً، يكبر مع بدء النهار ويـُقتـَل عند المساء. السماء زرقاء موشّحة بالقطن الأبيض والعصافير الفتيّة لا تتوقف عن تعلم الطيران إلى أن يدمى الشفق الأحمر بخطايا النهار الصغيرة.
أنا "أورفيوس". لم أخطئ إذْ نظرْت. أنا أخطأتُ إذْ توغلتُ في التفاصيل.

عندما يعلو الصراخ، أُبقي على جمودي. عندما تكثر الجثث، أتململ. عندما أسمع النشيد الوطني، أجلس. عندما تنهمر الدماء، أطالب الدولة بالاستفادة منها وتكريرها. عندما تكتظّ ساحات الشهداء أسفل نافذتي، أغلق الستائر. عندما يُطلَب مني أن أرفع العلم خارجاً، أقفل النافذة. عندما يصلّون لبارئهم يسألونه انتقاماً مقبلاً، أدخّن سيجارة. عندما أكتب بيانَ ثورة، يتجشّأ طفلي حليباً عليه. عندما أحاول كتابة نصٍ جديد، ينتهي إلى مجموعة من علامات الوقف. عندما أقرأ الشتائم البذيئة للشاعر المناضل، لا أندهش. عندما أقرأ الملاحق الثقافية، أجدني أمام نشرة أخبار البارحة. عندما تحين ذكرى أحدهم، أشتري سيرته الذاتية وأحرقها. عندما أبتسم وأدير ظهري له، يعود إلى شحذ السكين. عندما أستمع لثنائية العنف والحضارة، أبتسم. عندما يحدثني أحد عن المبادئ، أضحك. عفواً، قصدْتُ أقهقه. عندما ينكزني الطفل المسلَّح، أفتح له كفاً مملوءة بالسكاكر الملوّنة. عندما يصوِّب المسلّحون رشاشاتهم نحوي، أجابهُهم بمظلة شتاء مفتوحة، ملونة، مخطَّطة، مصنوعة من النايلون. عندما يتقيّأ أحدهم مذهبَه أمامي، أسدّ أذنيّ وأغني للا لا للا لا للا لا... عندما أقرأ الخبر العاجل، أتذكر مواضيع الإنشاء في الصفوف الابتدائية. عندما يصرخ ذاك الـ (..) من الشاشة، أرشف فقط من كوب الشاي الأسود المزّ. عندما تترك الملابس الخضراء الداكنة حيي، ألحقها، ألمّ الرصاصات الفارغة وراءها، وأجمعها للذكرى. عندما أعود إلى مبنايَ المستهدَف أتلمّس الخروقات وأعنونها: ب ,7 هاون، رشاش، مسدس فردي. عندما ترتفع الأعلام الحزبيّة على عمود الكهرباء القريب، أرمي عليها من شرفتي ماء الغسيل. عندما تبدأ المشاحنات الكلامية بين جاهلين يحملان شهادتين جامعيتين، أصمت. عندما يكثف رصاص الابتهاج، أنتظر أن أُصاب في شرفة المطبخ. وعندما أخرج سالماً من هذا الهيجان الرشّاشاتي، أكتئب. عندما تخلو المدينة من الناس، أعود إلى كنبتي الزرقاء وكتابي. عندما يرتفع صوت التصفيق، أتثاءب. عندما تبدأ مقدمة نشرة الأخبار، أنعس. عندما تصرّح لي بالحب للمرة الأولى بعد المئة على الهاتف، أنام.

أنا بائس. خبر قديم، أعرف. لكن، لا ضَيْرَ من إعادة ثانية. لا تحاسبوني على إعادة ثانية لتصريح شخصي وحميم، وأنتم تستمعون للتصريحات ذاتها منذ ثلاثة أعوام.
لم تعد السموات تكفي للمركبات الفضائية التي اخترعتُها في خيالي صغيراً، وسيَّرْتُها فوقي. قيل لي يوماً، أنَّ مركبة اصطدمت بأخرى فوق، وأنَّ "إي تي" رفع عليَّ دعوى قضائية لتحطيم إحدى مركباتي بيته. قال أنه لم يقضِ أكثر من ربع قرن في مخيَّلة الصغار وهو يردِّد جملته الشهيرة: "هوم.. هوم"، حتى يأتي شاب أخرق مثلي بمركبته المُتَخيَّلة ليحطِّمَ ما تبقى من بيته الذي يحتاج أصلاً إلى إصلاحات. وعليه، طالب بليرة لبنانية واحدة عطلاً وضرراً.
هه، يا للهزء. هه، يا للعبث.

***

في فيلم "شون بين" الذي أشاهده على الشاشة الآن، وفي هذه اللحظة بالذات، شاب ترك وراءه كل شيء. نجح في دراسته الجامعية وعزم بعدها على الانطلاق بعيداً عن البشر. عزم على الاقتراب أكثر من الطبيعة. جسّد مضمون ما كتبه "روبرت فاوست" يوماً:
" كان هناك طريقان يفترقان نحو غابة، وكان عليَّ أن أختار. ولأنني كنتُ مسافراً وحيداً، فلقد توقفتُ طويلاً، وأطلْتُ النظر في أحد الطريقين. ثم قررتُ أن أسلك الطريق الآخر، لأنها كانت أكثر اخضراراً، ولا يبدو أنَّ آخرين قد سلكوها قبلي.
قلت: سأحتفظ الطريق الثاني التي لم أَخْترْها ليوم آخر.
لكني، ولأني أعرف كيف تأخذنا الطرقات بعيداً بعيداً، فإنني أشك في أنني سأعود يوماً لأسلك الطريق الآخر.
فقط، بعد زمن بعيد، سأتنهد عميقاً وأقول:
طريقان افْترقَا إلى الغَابَة؛ ولَقد اختْرتُ مِنْهما طريقاً لم يسْلُكْها قَبْلي إلاَّ قلّة؛ وقد حَسَم ذلك الاختيارُ الأمْرَ كله. "
***

أنا بائس. وقفْتُ في محل الحيوانات، وفكرتُ: رحل أحدهم. إخترتُ طريقاً جديدة، وأحتاج إذاً إلى حيوان أليف ليعينني على تخطي الأيام القادمة.
نظرْتُ إلى العصافير فأصمّ سمعي صراخ أصواتها. انتقلْتُ إلى القطة، فلحظتُ خبثاً في عينيها، وكادت أن تهبش جلدَ يدي بأظافرها. تراجعْتُ إلى السلحفاة، فأعطتني ظهرها، وكانت بطيئة وساكنة كجثة ميتة. مرَرْتُ بيدي على الكلب، فقام بحركات وفيّة حدّ الانبطاح، جعلَتْني أتقزز. شخصْتُ بعينيّ ناحية أسماك الأكواريوم.
لا يا ريتشارد، يا صديقي الانكليزي الأشقر. السمك لا يُدَجَّن. أتذكّر الآن الخرافة التي أقنعتني بها وكتبتُ عنه يوماً. أضحك اليوم وأؤكد لك: السمك لا يتذكَّر صاحبه. "السمك بلا ذاكرة". هكذا، حسب ما قرأت، ستصرخ إحدى شخصيات فيلم يسري نصر الله الجديد الذي أنتظره. سمكتُك لا تتذكّر إصبعك يا ريتشارد، وأنا لا أحتاج حيواناً صامتاً ليزيد من رهبة الصمت حولي. لا أحتاج نقصاً إضافياً في ذاكرتي. وعليه، أصرّح: "لن أشتريَ سمكة!"
***

أنا بائس. أستعين بالخرافة والعبث واللا معقول لأكتب نصاً. قال لي أحدهم أنّ العبثية دليل خواء. "أنت لا تملك شيئاً لتقوله!"، كاشفني. "إعترِف"، أصرَّ.
سأعترف: أنا بائس، ومللتُ الانتظار. يا حالة البؤس الجماعية التي تجتاحينا، ما عدتِ تنفعينا. قتلتِـنا حتى بتنا ننتظر حسماً ما يطيح بكِ. يا حالةً تجعلينا نفقد إنسانيتنا وتقللين من طاقات احتمالنا للآخرين. يا حبّاً بائساً ينمو بين عاشقين الآن في ظلال تزمتنا الاجتماعي. تسألـُه: "ما بك؟" يجيبها: "لا أعرف. أشعر بشيء لا أستطيع وصفه. لا. أقصد لا أشعر بأي شيء، ولا أستطيع أن أصفَ لكِ ما لا أشعر به. تفهمينني؟" يسألـُها.
تجيبه: "أفهمك." ولا تتعجب هي لسؤاله، ولا يندهش هو بدوره لإجابتها.
سأعترف: أنا بائس. مللْتُ بؤسي، وبتُّ أحتاج ما هو أكثر وطءاً من البؤس. ما عاد هذا البؤس يكفيني. وعليه، سأهمس من غير أن يسمعني أحد: "ساعدوني."

. . . . . ... يقول لها أنه يحبها فتسأله أن يؤجلَ الموضوع حتى عودته من الخارج يومئ بنفسه لنفسه ويعقـِّب بطبعاً ويُحبَط في وحدته والأنكى أنه لا يعرف في تلك اللحظة إن كانت تبتسم أم تبكي أم تصمت لا يعرف لا يعرف حتى إن كانت تعرف استعمال أدوات الوقف في أمكنتها المناسبة فهو يعاني معها ربما لأنه لم يلتقط أنفاسه في فترة فاصلة طوال حياته القصيرة ثم يعود فيتحدّثان وكأنّ شيئاً لم يكن ويتكلمان في التفاهات والقضايا المصيريّة ويتشاجران على قضايا أسخف هل يمكن وصفها بالقضايا أصلاً إن هذا لسخف حقاً ثم يقفزان فوق التفاهات الآنفة الذكر ولما يدغدغ هو ما تم وضعه في الاحتياط لديها تبتسم وتقول له أن يتوقف وتتهمه بأنه يفسر الأشياء بمزاجه الخاص فيصمت للحظات قبل العودة لأشيائه الصغيرة في محاولة فاشلة أخرى قبل أن يقول لها أنه يحبها فتسأله أن يؤجلَ الموضوع حتى عودته من الخارج يومئ بنفسه لنفسه ويعقـِّب بطبعاً ويُحبَط في وحدته ... . . . .

الكنبة الخضراء في زاوية المقهى، كوب القهوة بالحليب الذي يزداد ضخامةً عَرْضيَّة في كل مرة أزور فيها المقهى ذاته، الفرقة الموسيقية التي تعزف جازاً لاتينياً، العرق على صدغ المغنية والشعرات القليلة الملتصقة على الجبهة، باقة الورد الأحمر الجوري ترميها يد مجهولة من نافذة البيت الأثري، بقعة الماء الراكدة عند مدخل البناية، صفار البيض الذي سقط على زاوية البوتاجاز، الدخان الأسود المنبعث من ناحية الطريق البحرية، الهلال الأصفر المقلوب ككماشة رسمها احدهم برداءة في خلفية المشهد الذي أنتِ فيه، العينان الخضراوان بين رمشين كُحـِّلا بلون أسود، الحذاء الزاحف الذي يناسب مشية ساعة أو ساعتين او أكثر، السترة المخططة بألوان خارجة من قصة بيت الحلوى الشيطاني الذي تؤكَل أبوابه ونوافذه وكل ما فيه، الابتسامة اللا إرادية على الثغر، العناق لحظةَ الموت المتلفز، اللا عناق الصامت لحظةَ الموت المتلفز العاشر على التوالي، صورة السياسي التي نمثـِّل بها ، نمزقها بسكاكين المطبخ في أحلام تجتاحنا على مدى أسبوع كامل، عناوين الروايات التي قرأناها وتلك التي تنتظرنا بعْدُ لنقرأها، أروقة المكتبة الجامعية المعتمة، الغبار الغبار الغبار على كتب السير الشعبية النادرة، مقالة الكاتب التي قرآناها سويةً وتخانقنا بعدَها، شتيمتكِ الأولى وشتيمتي الأخيرة (قبل ساعتين من الآن)، بائع اليانصيب الذي باعنا تذكرتين بشطارة فلسفية غير مفهومة، الشحاذ الذي سرق الألف ليرة من يدي قبل أن أعطيه إياها، صبي البويا الذي نقدتِه أجرته ورفضتِ رفع حذائي تجاهه ليدهنه، بائع الورد ذو الشعر المصبوغ الموجود دائماً في زاوية المستديرة، بائع السمسمية الولد الذي يطرح آرائه في السياسة، أبوكِ الذي قدَّم لي كأس فودكا وسألني ذات قعدة عن تفاصيل يومكِ، جفلتُ يومها وأجبتُه إجابةً تمييعيَّة، ليعاجلني بعدها بمعرفته عدم رغبتي الحديث في الموضوع، أبوكِ أبوكِ أبوكِ (لا أقصدها شتيمة، شعرْتُ فقط أنْ عليَّ تثليثها لسببٍ غير مفهوم)، فيلم شارلي شابلن البسيط، موسيقاه الأجمل، إنعكاس وجهينا في زجاج سيارة نظيفة متوقفة فوق الرصيف، العقد الملون الرخيص الذي ابتعتُه لكِ يوماً من عاصمة غريبة ولم تقبلي بعدها أن تخلعيه، الوسادة الدائرية ذات اللون الأخضر الباهت التي دائماً ما أضع رأسي عليها وأغطس فوراً بالنوم لأرى أمكِ تأنبني، وتطعمني، وتأنبني، وتطعمني وتشتمني قليلاً ثم تربِّت على كتفي وتقول: "الله يعينني عليكِ".

كلّ ذلك وأكثر خُيِّلَ لي رؤيته لحظةَ اخترقتْ الرصاصة المبتهِجة الجزء الأيمن من صدري واستقرَّتْ بين ضلوعي. خُيِّلَ لي رؤية كل ما سبق قبل أن يصعد الدم حلقي وأضطرّ أن أبصقه. أو باختصار، وبلا توْرِيَة، ومضَ كل ذلك أمامي.. قبل أن أموت.

دفتر يوميّات
"أحببْتُ الطريقة التي سرّحْتَ بها شعرك البارحة. (..) لمّا تبتسم أحسّ بارتفاع الموسيقى الفجائي. (..) البارحة كرهْتُ حياتي. أحلم باليوم الذي أغادر به المنزل. يعاملونني كأنني فلتانة. أحتاج فعلاً لبعض الهواء. (..) لا تعلم فعلاً كم أحبّك، حتى وأنتَ صامتْ. (..) البارحة نظرْتُ إلى والدي وهو يكلمني وابتسمت. اليوم نظرْتُ إليك وابتسمت. نفس الابتسامة. أتعلم؟ تشبهان بعضيكما كثيراً. تملكان طبقة الصوت نفسها وحركة التلويح بالأيدي نفسها. (..) شكراً لوردة الفالنتين التي لم تصلْني يوماً. (..) ستكون موجوداً بقربي بعد عشر سنوات. أليس كذلك؟"
لما نظرْتُ إلى كلّ ما كتبتُه في دفتر يومياتي، فكّرْتُ: كم من الذي كتبتُه أعلنتُه له صراحةً؟ عشرة بالمئة؟ أحضرْتُ بعدها كل دفاتر يومياتي. أخذْتُ أعد عشّاقي منذ ثلاث سنوات حتّى الآن. أخذتُ أقرأ، وأقارن بينهم، وأضحك لتفاهتي.

كعك.. كعك
كنتُ أشاهد قناة ديزني مع ابني الصغير، الذي يبلغ من العمر خمس سنوات، فيما كان هو يتذمَّر من ملوحة الطعام. تركْتُ ابني وأعددْتُ له طعاماً بديلاً.
كنتُ كلما تعاركْتُ معه، أبكي. أقول لولدي وأنا أروي له حكاية ما قبل النوم: "إنتَ بكرة بس تكبر، ما حَ تعاملني متل ما أبوك بعاملني. ح تريِّحني ما هيك؟"
(تلك اللحظة، دائماً ما أستخدم لفظ "أبوك" بدل لفظ "زوجي" أو لفظ التحبّب الذي عادةً ما أنادي به والده. الوضع لحظتها لا يسمح لأفعال تحبّب.)
هو ينظر إليَّ بعينين تائهتين. أحاول أن أتجنّب النظر إلى عينيه، وأضمه قبل أن أفسح له المجال لجواب قد لا يكون على مزاجي.
مؤخراً صار يحلم بالكوابيس. يشخص بعينيه إلى زاوية وهو نصف نائم. يرفع إصبعه ويصرخ مرعوباً: "لأ. لأ."
عادةً ما أدخله الحمام، وأعود لأمسِّد له على شعره حتى ينام.
البارحة، ارتفعتْ حرارته إلى الأربعين. طلب مني زوجي أن أحضره لينام بيننا، في سريرنا. استغربْتُ طلبه. وضعْتُ بعض كمّادات الماء الباردة في وعاء قريب. رحتُ أغيّر له الكمادات لساعتين أو ثلاثة حتى غافلني النوم. لما استيقظْتُ من غفوتي، رأيتُه يقبله على جبينه ويقوم بعصر الكمّادات الباردة، فاصطنعْتُ النوم.
اليوم التالي، تابعتُهما وهما في الزاوية يضحكان. يدغدغه، فيضحك. يحمله على كتفيه، يصرخان سويةً: "كعك.. كعك.. "، ثم يصطنع شعوره بألم الأكتاف، فيضحك. يدسُّ له في الآلة أسطوانةً مدمجة لفيروز، ويأخذ يشرح له.
شعرْتُ أنهما يشبهان بعضيهما أكثر. لم أملك إلا أن أبتسم وأتركهما سويّةً.

وصايا
هل أخذْتَ الولد إلى الطبيب؟ هل أعطاه دواءً؟ هل تتأكد أنه يأخذ الدواء في مواعيده؟ (..) إسمع. الولد بحاجة لشنطة مدرسيّة جديدة. ألم تلاحظ الخزق الذي أصابها عند زاويتها في الأسفل؟ هل دفعْتَ له مصاريف الرحلة؟ لا. لا. أستطيع دفعها أنا طبعاً، لكنها مهمتك أنت. لا تستقِلْ من مسؤولياتك، أنتَ من طالب بحضانة الولد. نهاية الحديث، كل رفاقه في المدرسة سيشاركون بهذه الرحلة المدرسية. لا أريد له أن يشعر باختلافه عن أصدقائه. (..) إسمع. أصدقاؤه لا يعجبونني. إستفسر عن أصولهم. هذه المرحلة بالغة الخطورة بالنسبة له. إنتبه لتصرفاته. (..) إسمع. الولد بلغ. هل جلسْتَ معه جلسة راشدين؟ هل كلمْتَه عن الفتيات؟ ألم يقل لكَ شيئاً بعد؟ لا أريد أن أتحدَّث معه بهذه الأمور! أنتَ من عليك أن تكلمه في مثل هذه المواضيع! (..) إسمع. أفهم أنك لا تستسيغ تدخلي، وللحق، أنا بدوري لا أستسيغك. لكن الولد يربط بيننا إلى آخر العمر. شئنا أم أبيْنا. (..) لِمَ لا تجيبني؟؟

أكواريوم
عادةً ما تتطاير الكلمات ورائي كلما أخرج من شارعي أو أدخل إليه. كنتُ أغضب لما أسمعها. أعتقد أنهم يتقصدون الحديث بطريقة أسمع فيها مضمون كلامهم. في البدء، كنتُ أدخِل نفسي في مناقشات متوتّرة لا تفضي إلا شيء غير أنها تجعلني أكثر غضباً.
"هيدي عانِس. بتكون مرباية بسينات بدل الولاد."
"هيدي شيوعية. عايشة لحالها."
صرتُ أبتسم كلما أسمع كلاماً من هذا النوع وأنا عائدة. أفتح باب المصعد وأدخل.
أصل شقتي. أشعل التلفاز. خبر عاجل أو خبران عن عراك شارعي بين شباب منطقة قريبة. أطفئ التلفاز. أنظر إلى الأكواريوم. إلى أسماكي، صديقاتي الصامتات. أفكر كم أكره ضجيج القطط.
أخرج إلى الشرفة. شرفتي تطل على شارع حيوي من شوارع بيروت. الشارع فارغ من أي شخص وأي آلية وأي صوت. إنها توابع العراك، أفكّر. أنظر إلى هاتفي. تلقيْتُ إتصاليْن من العمل، إتصال من والدتي، آخر من صديق.
أدير المذياع ليصلني صوت امرأة أعرفها. أكره هؤلاء البدينات المهتمات بحقوق المرأة. معظمهنّ متزوّجات بتسريحات قصيرة. أعتقد أنهنّ يبادلنني شعور الكره ذاته.
الأسبوع الماضي، تأخَّرت عادتي الشهرية. أصبحْتُ أكثر توتراً وجنوناً. لم أرتَح إلا لما رأيْتُ الدم في كرسيّ المرحاض، بعد يومين أو ثلاثة. أصرّح دائماً أنّ الزواج والأطفال ليسا من اهتماماتي، فممَّ ظهر هذا الخوف المجنون فجأة؟

المقالة الأخيرة
تضاءلت زياراتي إلى قبره، وإن كنتُ لم أستغنِ بعد عن أثوابي السوداء. البارحة، أجبرَتْني أختي على لبس وشاحها الملون فوق ثوبي الأسود. قالت أنني بتُّ أكثر شحوباً وعليَّ أن أنسى. إبتسمت لها. هل أستطيع أن أنسى كيف كان يحب أن يمشي حافياً على البلاط البارد، أو كيف كان يكره الملاءات المورَّدة؟
لمّا لبستُ الوشاح الملوَّن وجدتُني كبرت عقداً. تنازلتُ فقبلْتُ بوشاح أختي، تشددتُ فرفضت الماكياج على وجهي. البارحة، أعدْتُ الاستماع إلى أغنيته المفضَّلة لحظةَ عرفت بموت كاتبه السياسي المفضّل. اتجهتُ إلى قبره وقرأتُ له مقالة الكاتب الأخيرة. كنتُ أحمل الجريدة وأقرأ بصوتٍ عالٍ. نظر إليّ زوار القبور المجاورة بذهول، لكنني لم أتوقف قبل إنهائي قراءة المقال كاملاً.
إنتبهتُ لما عدْتُ، وأنا أنظر إلى حيطان وزوايا البيت، أنني لم أزنِّر زوايا صوره بشرائط سوداء. كيف فاتني أن أفعل ذلك؟

(إلى لينا)

بيروت
توقفت السيارة عند التقاطع. بدا المشهد هذرياً: السائق في الخلف يطلق لبوق سيارته العنان كما لشتائمه، الشرطي أمامه يشير له بحركة عصبية بأن يتقدم، والشارة الضوئية المعطّلة تومض تكراراً بضوء أصفر.
وقفت السيارة، وركض نحوه بائع اليانصيب، وبائع اللوتو، وبائع جلد الغزل، وبائع الأدوات الصينية الرخيصة، وصبية العلكة، وماسحو الزجاج من الأولاد. كانت الأمور تجنح نحو الفوضى المطلقة وهو ما زال يعيش حلم اليقظة ومعه سلبيته المطلقة. كان سبب ذاك التوقف وتلك الفوضى القادمة.. وردة.
تمترس ولد الغاردينيا ويداه تلمسان الشباك نصف المفتوح. كان أمامه يسأله: «يعني بدك غاردينيا. بدك غاردينيا؟».
هو كان يفكر بـ «ل.»، وكيف أنها ذات مرة حملت وردتي غاردينيا على راحة كفها وشمَّتْهما، ثم وضعتهما في شعرها. كان يتذكر كيف ضحك لما رأى الوردة «مشكولة» وكيف سألته: «كل هالأد بتضحِّك وردة الغاردينيا؟». وهو الآن يسأل نفسه لماذا ضحك فعلاً وقتها. هل كان يردم الفراغ الكلامي.. بضحكة؟

لندن
أصعد الدرج الكهربائي في محطة «لندن كينغز كروس» للقطارات. أرى الوحوش الكبيرة في أجسادها الصغيرة. أومئ برأسي إلى الدرجات الحديدية حتى أكاد أقع عند انتهاء الدرج. الوحوش الكبيرة ترمقني، لكني لا أهتم لنظراتها.أرفع ما وقع من حقيبتي الرياضية، وأسوّي ربطة الوشاح الصوفي فوق الكنزة السوداء. أحب الأوشحة الصوفية، خاصةً تلك المخططة منها. في مرة، فتحْتُ خزانتي ففوجئتُ بكمّ الكنزات المخططة التي أمتلكها. كأنني كنتُ أقف أمام زنزانة للمساجين. ضحكتُ، وقلتُ إنني فعلاً في زنزانة. زنزانة من نوع خاص متمثلة بالاستديو هذا. هنا، في غرفة جانبيّة، أو في زاوية معتمة من هذه الحجرة، أعلّق حبلاً لنشر صوري المبتلّة التي أظهّرها يدوياً. وأحياناً، أتم العملية هذه في الحمّام. هنا، أتلذذ بناتج عدساتي. منذ أيام، رجعتُ إلى عزلتي الاختيارية. وللحق، أنا مرتاحٌ جداً لخياري هذا. في العتمة، تولد بين يدي قصص صغيرة. آخذ الصور وأعنونها. بعض الأوقات، أتذكر أبيات شعر تتماشى مع أشخاصها. الآن، وأنا ألمح صورة العجوز بالعينين الناعستين أمامي، أستعيد قول تولستوي: «السعادة تشبيه، أما التعاسة فقصة». أفعل ذلك، أعلق الصورة على الحبل المشدود، وأجرع من كأس النبيذ جرعة أخيرة.

باريس
يبتسم فجأة في زحام المترو. الكوفيات الملوَّنة تحيط به. روائح البول والعرق اعتادها جزءاً من القطار السفلي السريع في المدينة المشعّة. باريس: عمل، مترو، نوم. ينظر للمرة الألف إلى وجه العازف «الشحاذ». يستمع إلى آخرين يتكلمون العربية ويصمت. يجذب الألمانية الجميلة من يدها إلى داخل قطار المترو قبل أن يغلق الباب. يرى «الغرافيتي» الملونة الداكنة على الجدران في ظلام الأرض. يخطر في باله شارع الحمرا فجأة. يتذكَّر مرة أنه قرأ هذه الجملة في مكان ما: «شارع الحمرا بدا كالمغناطيس تلك الليلة. شارع الحمرا بدا كالمغناطيس». يخرج إلى السطح. إلى فوق. يتحيَّن الفرصة لإقلاق مباغت لجماعات الحـَمَام على الرصيف. ينفي ببساطة كونه هندياً ويبتسم. ينفي ببساطة كونه مغربياً ويكمل ابتسامته. تدمع عيناه لوفاة سينمائية جداً في صالة لم يكن غيره متواجداً فيها. يصمت ويبدأ بإخراج وسخ تحت الأظافر ليومين. يقص أظافره في اليوم الثالث. يعتزل صالون الحلاقة وثرثرة من فيه. يبدأ بلحظ زيادة وزنه. يبدأ بلحظ فقدان وزنه. يُبقي الأنوار مضاءة ليلاً. يتمسك بما لم يتخلَّ عنه الزمن بعدْ. يحافظ على حيادِه الفَرِح. يؤمن بالنبوءة: باريس! عمل، مترو، نوم!

فلوريدا
عزيزي. أكتب لك هذه «الإيميل» وأنا غاضبة جداً. لا لست غاضبة. لقد خاب أملي فعلاً. وصلْتُ ولاية فلوريدا منذ أيام. ما زالت المشاعر المختلطة تلفّني. ما زلتُ لا أستطيع النوم. أستعين ببعض الحبوب المنومة. من رأس النبع إلى فلوريدا، كانت رحلة متعبة نفسياً وجسدياً. لا أصدِّق أن هذا حدث فعلاً في النويري ورأس النبع. كأنني كنتُ أعيش كابوساً. لقد أجلْتُ رحلتي لسنوات، ولما عدت وجدتـُني محتجزة بين حيطان أربعة، أصم أذنيَّ عن أصوات «الآر بي جي» والرصاص المتطاير. لا أفهم السياسة، لكن لا تظنَّنَّ يوماً أنني سأتعاطف مع مسلحين أحكموا السيطرة على شارعي. عزيزي. أنظر الآن إلى الأطفال، حولي حيث أعمل، يلعبون ويلهون. لا تعاتبني على ما سأقوله، لكني أفكّر أنه من الأحسن لهم أن يكونوا متأخري التفكير والنطق. لقد أحضرْتُ لهم من التعاونية القريبة في بيروت بعض غزل البنات والكثير من الشيكولاتة الرخيصة التي كنتُ أحبها وأنا صغيرة. ما زالوا يبيعونها. لن أكذب. أبقيتُ القليل منها لنفسي. ضممتُهم كثيراً بعد عودتي من رحلتي. كنتُ أعانق الجميع من دون أن أفهم لماذا.
أحد الأولاد الآن ألصق لسانه بالواجهة الزجاجية وبدأ يفتعل لي بعض الحركات الوجهية. عليّ أن أذهب. أرجو أن تكون بخير.